اللغة الحسانية كتراث لا مادي .. بقلم الدكتور مني الحبيب
الداخلة الرأي: مراسلة
د. مني الحبيب
اللغة الحسانية كتراث لا مادي
اللغة الحسانية وعاء نسق ثقافي مُمَوضَع في منطقة جغرافية شاسعة نسبيا . وتتشكل هذه الثقافة في نسق متكامل من المكونات التراثية والانثروبولوجية والعلائق المجتمعيةوالتشكيلات الخِطابية الفنية والحِكَمِيةوالطقوس والشعائر والعادات الراسخة في اللاشعور الجمعي لسكان الصحراء .
وتتحدث بعض الأبحاث عن هذا النسق تحت اسم: ثقافة البيضان. أي الجماعة اللسانية التي تتحدث العربية الحسانية (كلام حسان) من عرب وأمازيغ بيض ومن لحق بهم من سود . هي جماعة لسانية تتواصل بهذا اللسان وتستعمله في معاشها اليومي ويشكل الوعاء المادي أو الفيزيقي لثقافة خصبة وغنية النشكيلا الخِطابية الشفوية. نحن إذن أمام ثقافة شفوية ونسق لساني غير مكتوب برغم أن مستعمليه يعرفون الكتابة ويجيدونها.
وعليه، يجمع مختلف الباحثين على أن واحدة من السمات الجوهرية لهذه اللغة والثقافة هيمنة الطابع الشفوي وقلة الكتابة ووسائلها في مجتمع الصحراء الذي يعتمد أساسا التعبير الشفويكوسيلة للتعبير عن أغراضه وللتواصل ونقل التجارب من السلف إلى الخلف وحفظ الذاكرة الجماعية التي تترسخ وتتجذر عبر جلسات السمر التي تميز ليالي الصحراء. والقصد من ذلك القول إن اللغة الحسانية هي تحديدا نسق الصوات المادية الفيزيقية الحاملة لثقافة مموضعة جغرافيا. ومن ثم، تشكل بوصلة التعامل مع العالم والاهتداء فيه على جميع المستويات والأصعدة. ومن الملائم هنا التنبيه على أن مصطلح الثقافة نستعمله بالمعنى الذي استقر به في الأنثروبولوجيا، أي نسق العادات والتقاليد والعراف والتمثلات والمشاعر والأفكار والمعتقدات التي يرثها الخلف عن السلف عبر اللغة وفيها. وبهذا المعنى، فاللغة الحسانية نسق رمزي يمثل تراثا ماديا جديرا بالنتباه والاحتفال والمقاربة والتحليل.
ولقد ابتكر مستعملو اللغة الحسانية ضمن عدة أشكال خِطابية Formes discursives: المثال والغناء وصناعة الشعر والنثر وتسريد القصص… بكيفيات كاشفة عن سليقة وملكةخاصتين وتميط اللثام عن الوعي الجمعي لمجتمع يسكنه سحر الصحراء ويبدو وكأنه مجبول على الكلام الذي ينتج الدلالة عبر عناصر الإيقاع من وزن وقافية، ومن خلال اشكال التناظر التي تتحكم بإنتاج اللغة الحسانية واستعمالها. وإن كانت هذه الظاهرة جديرة بالدراسة النثروبولوجية والسوسيولوجية، فهي كذلك جديرة بالدراسة من موقع النقد الجغرافي Géocritique.
وقد تبدو هذه الثقافة في المنظور السياحي للبعض على أنها ثقافة ساحرة ومثيرة. غير أن ما يبدو سحرا في هذا المنظور، يشكل خاصية تمييزية وهو في الوقت نفسه عنوان على التنوع والجماليات الخاصة التي تتبدى في الكثير من الإنتاجات الغنائية ذات الارتباط الوثيق بما يقوم كعلاقة بين الإنسان والمكان الصحراوي والممتد الذي قد يبدو للبعض عدوانيا، في حين انه أليف في منظور الساكنة التي تنخرط معه في علاقة أُلفةٍ.
ويمكن للمتتبع أن يلاحظ أن اللغة الحسانية كوعاء للتراث الثقافي الحساني بالمغرب وموريتانيا تتضمن الفولكلور والأغانيوالموسيقى الشعبية والحكايات وأشكال من المعرفة التقليدية المتوارثة عبر الأجيال والحقب والأزمنة؛ وهذا ما يشكل الشق اللامادي في هذه الثقافة؛ وبالمقابل، فشقها المادي يتكون من أواني وحِلِيّ وملابس ووثائق وغيرها، مما قد يعتبر علامة شديدة الخصوصية على هوية المجتمع الذي يتكلم هذه اللغة ويستعملها في التعبير عن اغراضه اليومية.
وبهذا الاعتبار، فاللغة الحسانية عامل وحدة وتقارب بين الشعوب التي تنتمي للمجتمع الحساني، وفيها الكثير من الأمثال والحكم التي تؤكد ارتباط الانسان بالصحراء وتصوغ تجاربه وخبراته ورؤيته للعالم.
وعلاوة على التعبيرات الأدبية والغنائية والفنية، تتضمن اللغة الحسانية تراثا علميا متميزا يهمالنجوم ومواقعها والمطالع والمنازل الفلكية ودلالتها في فهم التقلبات الجوية والتي تشكل قسما جوهريا ضمن مشاغل واهتمامات إنسان الصحراء.
ويحمل قاموس المناخ اللغوي الحساني العديدمن أسماء الظاهرات الجوية المتنوعة التي المتحكمة بطقس الصحراء وتقلبات أحوالها الجوية، وهي اسماء تنم عن معرفة عميقة بالمجال المحيط وعن صيغة نوعية في التعامل معه. وقد نقول مثلا إن تعامل سكان الصحراء مع الرياح لا يعادله في الدقة سوى تعامل الإسكيمو مع الثلوج. ففي الصحراء، يتحدث الحسانيون عن الزعفيكة وهي الرياح المحملة بزوابع رملية، وعن الكتمة وهي الرياح المحملة بغبار مظلم داكن، وعن العجاج وهو الريح المحمل بأتربة… هذا مع العلم أن كلمة العجاج-بهذا المعنى – تستعمل في الكثير من مناطق المغرب…
وحينما يمعن المرء النظر في كلمات من قبيل الكارة والخشم والنبكة والالعظم وغيرها، سيلاحظ أنها تفصح عن معرفة وصفية تفصيلية للمجال الجغرافي التضاريسي الذي يتعامل معه إنسان الصحراء، بكثبانه وأشكال مرتفعاته. وما لوحظ في مجال معجم الفلك والجغرافية، ينسحب كذلك على مضمار ثقافة الصحة والمرض والتطبيب والعلاج؛ إذ تستعمل اللغة الحسانية معجما غنيا للدلالة على الأمراض وأسبابها وأعراضها وطرق الاستشفاء منها عبر اعتماد مواد مستخلصة من الحيوان أو النبات؛ وضمن هذا المعجم، من المشهود به وجود تنافذات ثقافية بين جميع الجماعات المجتمعية التي تستعمل اللسان الحساني، وهيمنة المفردات العربية على حساب ما ينتمي للقاموس الأمازيغي.
ومثلما الأمر في جميع اللغات والألسن، تقتضي مفردات اللغة الحسانية إدراكها ضمن السياق الذي استعملت فيه؛ إذ المعاني المعجمية شيء، والدلالالات السياقية أمر آخر قد لا يدركه إلا من له علاقة ألفة مع اللغة الحسانية والثقافة المٌحايثة لها.
وفضلا عن التنوع المعجمي في هذه اللغة، يوجد كذلك تنوع مذهل على مستوى شكل التعبير وعلى صعيد صيغ التلفظ énonciation التي تجعل اللسان الحساني غنيا بالصور والتراكيب اللغوية التي تفصح عن العواطف والمشاعر، وبأساليب القسم وأدوات الشرط وصيغ الاستفهام والإشارة والتصغير والتفخيم والتعجب والحث والإغراء والتحذير والدعاء والتفضيل والمقارنة وغيرهامما هو معهود كذلك في اللغة العربية والأمازيغية وسائر اللغات المستعملة فوق الكرة الأرضية والتي يصل عددها_ حسب تقديرات اللساني الفرنسي كلود حجييج إلى ستة آلاف جماعة لسانية.
وبرغم وحدة اللغة الحسانية وتماثلها فوق رقعة جغرافية ممتدة، تعرف بعض الاختلافاتالطفيفة الناتجة عن وجود عوامل تأثير متباينة عبر هذا الامتداد الجغرافي وضمنها اختلاف مكونات الجوار من حدود جغرافية إلى أخرى.
وبما أن اللغة الحسانية والثقافة المحايثة لها تشكل قاسما مشتركا بين سكان جنوب المغرب وأهل موريتانيا، فهي تساهم في التقارب وتتيح بكيفية أفضل تشييد علاقات اجتماعية واقتصادية غنية ومثمرة